تابعنا حديثنا بلغة عربية هي بالأحرى أقرب إلى اللهجة العامية التي لا تمت إلي اللغة الأم بصلة . شعور غريب يجتاحني من جراء المفاجأة ، وذلك لأنني في البداية اعتقدت بأنها أسترالية .
- منذ سنوات بعيدة ( تابعت السيدة لطيفة ) والدتي كانت طفلة عندما هاجرت مع عائلتها.
وذكرت اسم والدتها وعائلتها ، وسألتني إذا كنت قد سمعت بهذه العائلة أو تعرفت على أحد من أفرادها. أجبتها بالنفي للأسف ، على الرغم من أن الاسم بدا وكأنه معروف جداً لي ، وذكرت لها بعض أسماء العائلات التي اعرفها من البلد التي ذكرتها ، أغلبها كانت معروفة لديها ، وكانت سعيدة بذلك ، وكأنها ترى أمامها كل هذه الوجوه .
كانت قد توقفت عن العزف ، وكأنها تحاول العودة للحظات إلى الوراء ، في محاولة استجداء للذاكرة ، لتقطف بعضاً مما حفظته ولم تمسه يد النسيان من ألحان كانت لوقت ليس ببعيد تعصف بحنايا القلوب .
- هل تريد أن أعزف لك لحناً عربياً؟
سألتني والابتسامة على شفتيها.
- أي لحن تعرفينه .
أجبتها وفي نفسي شك من قدرة هذه العجوز بالرغم من كل هذه السنين الطويلة في الغربة والكفيلة بأن تمحي كل المعالم من الذكريات ، من أين لها أن تتذكر لحناً عربياً .
بدت السعادة على وجهها ، ولمعت عيناها ورسمت ابتسامة على شفتيها الواهنتين ، وقالت :
- يا بني ، الموسيقى ليس لها هوية وموطن ، فهي ملك للجميع ، إنها لغة لا تحتاج أحرف وكلمات ، كي نفهمها ونستمتع بها ، ولكن الكلمات التي تشكل لغة الأغاني ومعانيها ، هي التي تحدد هويتنا وانتماءنا .
وبدأت تعزف وتغني بطرب ، لحناً أعرفه جيداً ، من الألحان الخالدة سطر كلماته جبران خليل جبران " أعطني الناي وغني " يا إلهي ما أروع هذه الكلمات ، ورحت اردد معها كلمات الأغنية كما غنتها سفيرة العرب إلى العالم بصوتها الملائكي فيروز .
ومن ثم عزفت لحناً عن الغربة والشتات ، فيه من الحزن ما لا يمكن معه أن تسيطر على مشاعرك ، لتنهمر الدموع من عينيك ، وأنت تسمع وتسافر مع اللحن الحزين وتسأل روحك ما هذا الألم وما هذه الروعة ؟! فالأكورديون بدا وكأنه هو الآخر يتألم ، وهو يرافق قلب السيدة لطيفة ، هذا القلب الذي ما زال ينبض بلوعة الحنين إلى الديار المقدسة ، إلى الوطن الذي لم يبق منه في نفسها إلاَّ ذكريات الماضي الجميلة.
التف حولنا جمع غفير من المارة ، وروح السيدة لطيفة تبكي بمرارة ومعها أكورديونها ، معبرة عما يجول في قلب كل مهاجر ترك وطنه باحثاً عن لقمة العيش الكريمة ، فهذا هو قدرنا بأن نعيش محرومين من دفء الوطن والشعور بالأمان في ربوعه .
ولكن الألحان العذبة التي تعزفها السيدة لطيفة ، لتمتع بها المارة على شاطئ البحر ، تبقى هي التعبير الأجمل والأصدق ، عما يشعر به كل منا كمهاجرين ، لم نستطع نسيان الأرض والوطن ، ولم نستطع التطبع والانصهار في الحياة الجديدة .
كل مهاجر منا - أعتقد - يحلم بأن يعيش حياة كريمة ، وأن يستطيع المشاركة في بناء مجتمع أفضل بما يحمله من موروث كبير من العادات والتقاليد ، إلى جانب الثقافات والحضارات الأخرى ، التي يتألف منها المجتمع الجديد ، دون أن يكون هناك تضارب ، أو اعتداء على حق الشعوب الأخرى ، في ممارسة طقوسها وتقاليدها .
بعد أن أنهت السيدة لطيفة عزفها ، وتفرق المارة الذين تجمهروا لسماع ألحانها ، أومأت لي بأن أقترب منها ، وسألتني عن اسمي ، وهل عندي زوجة وأولاد ؟ فقلت لها نعم عندي زوجة وأولاد ، فتمنت لي بأن يكونوا من الصالحين ، وبدأت تقص عليّ حكايتها :
" أعيش في بيت المسنين ، القريب من هنا ، يا بني، شكراً لـ " السلفيشن آرمي / Salvation Army " الذين عطفوا عليّ وأحضروني إلى هذه الدار ، لولاهم لكنت مرمية بالشارع ، أنام على الرصيف وفي العراء ألتحف البرد غطاء والأرض فراشاً .
فعندما يتخلى عنك أبناؤك ، الذين أفنيت حياتك وعمرك في تربيتهم ، فإن سنين الهرم تصبح ثقيلة ومؤلمة.
في دار المسنين ، يحتفظون بتقاعدنا ، مقابل الخدمات التي يقدمونها لنا ، والمصاريف اليومية ، وتلبية ما نحتاجه من طعام وشراب ودواء .
وأنا اعزف على الأكورديون لأحصل على بعض المال من أجل أن أشتري فستاناً جميلاً ولعبة لحفيدتي الصغيرة التي حرمت من رؤيتها ، إن قدر لي في يوم من الأيام أن أُمتع ناظري بوجهها البريء ، طالما أنني أستطيع العزف وأجيده ، وهو ما يعجب المارة ، فلقد كنت مدرسة موسيقى أيام شبابي ، فأنا من عائلة محترمة ومعروفة ، تعلمت العربية من والدي ووالدتي ، وكذلك الألحان الموسيقية. كانت سنوات صعبة يا بني ، حيث لم يكن باستطاعة المهاجر أن يتحدث بلغته ، أو أن يذكر اسمه ، لذا فإن الكثيرين منهم قاموا بتغيير أسماءهم ، أما الآن فكل شيء يختلف ، جميعنا متساوون في دار المسنين ، (الأصحاء منا والمرضى ) حيث لا يسيء أحدنا إلى الآخر ، فالكل يد واحدة .
لا يهم يا بني ، كيف تعيش ومع من تعيش ، بعد أن فقدت أعز الناس إلى قلبك ، بعد أن رموك في الشارع دون رحمة ، متناسين بأنك وهبتهم كل ما تملك ، وضحيت بكل شيء في سبيل تأمين العيش الكريم لهم ، فلم يعد بإمكانك العيش بين معارفك وأصدقائك وأقاربك ، فتجر أذيال خيبتك وحزنك وترحل بعيداً … حيث لا يعرفك أحد .
يا إلهي .. لا أريد أن أتذكر أكثر من هذا .. لا أريد أن أعود إلى الماضي ، فلم يعد لي قدرة على تحمل الألم أكثر من ذلك " .
نظرت إليها وبداخلي جرح ينزف . إلى عينيها عادت تلك النظرة المتحجرة الحزينة ، التي تحاول أن تجد الإجابة عن أسئلة قتلت كل أحاسيسها ومشاعرها وصلتها بهذا العالم المتمدن ، وهي تتذكر الأيام الخوالي ، عندما كان أطفالها صغارا ً، يلعبون ويتراكضون من حولها ، كم كانت سعيدة ..؟!! وكم هي تعيسة الآن ..!! تعرف جيداً الثمن الذي دفعته من تعاسة وألم يهد الجبال ، ولا تعرف ما يخبئ لها القدر من مصائب قادمة .
تألمت إلى أبعد الحدود ، لدرجة أنها لم تعد تفرق بين الألم والموت البطيء ، فلن يهم الشاة بعد أن تذبح سلخ جلدها . مأساة وألم كبير أن تعرف مصدر ألمك ، وأن لا يكون في مقدورك أن تنسى هذا الألم وتتجنبه ، وأن تعيش بعيداً عمن وجدت من أجلهم ، وأن تجوب الشوارع تبحث بين الوجوه التي تصادفك ، عن ملامح وجه فقدته ، فتبدو وكأنك تتسول في الطريق .. تطلب الصدقة .
- كل يوم ستجدني هنا ، في هذا المكان ، إذا كان لديك بعض الوقت تعال لنتحدث قليلا ً.
غادرت المكان متأثراً ، بعد أن ودعتها ، بسرعة ، وعيناي مغرورقتين بالدموع .
المسكينة تتألم ، كثيراً ، وهذا هو حال المهاجر منا ( بدأت أحدث نفسي ) كيف يمكنها احتمال كل هذا العذاب؟!! ، فهي أم وجدت نفسها في الشارع ، وهي تعلم بأن لها أبناء ، كانت تعتقد بأنها زرعت في نفوسهم ، ما معنى أن تكون إنساناً ، وما هي سنة الحياة ، كيف لها أن تعيش حياتها المتبقية وفي كل زاوية وركن تجد من يذكرها بمصيبتها .
وكيف يتسنى لك العيش بأمان وسعادة ، وأنت تجد نفسك محاصراً بمن يسبب لك الألم ويلغي وجودك ، كما فعل أبناء هذه السيدة المسكينة .
ظلت هذه الأفكار تراودني ، طيلة اليوم ، لم تترك لي مجالاً للتفكير في شيء آخر . وفي اليوم التالي عدت إلى ذاك المكان وكلي رغبة وشوق لأن أعرف المزيد عن حياة هذه السيدة ، ولكن للأسف لم تكن موجودة .. يبدو أنها لامت نفسها ، على هذا الانفتاح الذي هي في غنى عنه ، فقررت تغيير مكان عزفها .
وهكذا لم يتسن لي رؤية هذه المرأة ثانية ، ولا رؤية الألم والحزن الذي يقطن في عينيها ، ولم أستطع ، سماع ألحانها الرقيقة التي يجود بها أكورديونها الباكي الذي يعتصر ألماً ، يقاسم من تعزف هذه الألحان آهاتها وعذاباتها .
لم تغب هذه المرأة عن مخيلتي وفكري حتى اللحظة ، عجوز هرمة لها من العمر سبعون عاماً ، تعزف على الأكورديون ، على الرصيف في الطريق الساحلي ، مقابل القليل من المال ، ليتسنى لها نسيان الماضي ، وطرد الأحزان من غرف روحها الخاوية ، وذلك من خلال بقائها قريبة من الناس الذين لا تعرفهم ، ولا يمتون لها بصلة ، لعلها تشعر بالسعادة ولو قليلا .
نعم ، كم هي صعبة هذه الحياة التي نعيشها ، في الغربة ، بعيدين عن أوطاننا ، كلنا نشترك في هذا الحزن وهذا الألم ، فلقد انطلقنا نجوب القارات ، ونعيش تجارب البشر المختلفة ، ونذوق طعم الغربة ، كاليتيم الذي فقد أبويه ، في محاولة الحصول على لقمة خبز ، ولحظة سعادة ، مفروشة بالأشواك والصعاب ومرارة الوحدة ، نحاول انتزاعها من أحضان الغربة ، والألم يتربص بنا في كل خطوة نخطوها .
https://2img.net/r/ihimizer/img248/5538/herzaussteindy4.gif